تنشط شركات دفن الموتى في هذا الوقت من العام وكأنها تربط غزو الخريف للأشجار بسرقة الأقدار لحكايتنا. فتعلق ملصقات دعاياتها محملة بعروضها المغرية وبطريقة ملفتة للأنظار، تذكرنا بما تحاول ذاكرتنا تجاهله.
ويحتد التنافس فيما بينها في تقديم خدماتها حول طرق الدفن المختلفة وتكاليفها التي تتفاوت أسعارها بحسب قدرة الأموات على دفعها. ففي هذا الجزء من العالم يتم وضع ميزانية لهذا المشروع المستقبلي يتحدث عنه أفراد الأسرة بكل صراحة ووضوح أثناء شرب القهوة، وكأنهم يتحدثون عن فيلم رآه الآخرون واحتفظوا بأحداثه لأنفسهم، فيتناولون مواضيع تتعلق بكل ما يمكن أن يخطر على بال الميت من أمنيات ليومه المميز ابتداء من نوع التابوت، وألوان الشموع، ولون الورود، والموسيقى المرافقة لخطابات الأصدقاء والأقارب في نعيه، وانتهاءً بطريقة الدفن وحتى نوع الطعام والنبيذ المناسب له.
دفعتني الملصقات البراقة والعروض العجيبة إلى تذكر جلسة لي مع بعض الأصدقاء والصديقات من أبناء وطني. والتي تحولت فيها ضحكاتنا إلى غصة استقرت في حناجرنا، حين بدأ وليد يحكي لنا قصة والده الذي لم تشغله قصة الموت بتاتاً، بل مكان دفنه معللاً ذلك بطول إقامته هناك، بالإضافة إلى تحقيق نوع من أنواع العدالة في اختيار الإنسان لقراراته المصيرية، فإذا كان قد حُرِم من حق اختيار مكان ميلاده فعلى الأقل يجب أن لا يُحرَم من ذلك عند رقاده.
كان والده يعرف أن مرضه لن يمهله كثيراً ولكن موعد تسديده لضربته القاضيه كان متروكاً لمزاج هذا الفيروس اللعين. لذلك خطط أن يتوقف عن تناول الدواء خلال فترة وجوده في وطنه والتي لا تتجاوز ثلاثة أشهر وهي الفترة التي يسمح بها الغرباء له بالبقاء بين أهله، عندها قد يتواطأ المرض ويخلي سبيله، فتقوم العائلة بإخفائه في المقبرة التي تعودت الصمت وكتم أسرار المقيمين فيها. كانت خططه كثيرة حتى أصبح الحديث عن الموت يرافق أمسياتهم تماماً كشرب الشاي بأوراق الميرمية، وفي النهاية جاءته المنية في أحد مشافي العاصمة الألمانية الباردة لتختضنه تربتها الغريبة الرطبة وتغطيه سماؤها الضبابية المنتحبة.
كانت أضوية الاعلانات تلمع في عينيّ لتفضح دمعة كانت تحاول القفز منهما في غير وقتها ومكانها. أكملت قدماي السير على هذا الشارع الرئيسي لا أسمع فيه سوى صوت وقع أقدامي على أجساد أوراق الخريف التي فرشته بالكامل.
وبدأتُ أفكر في قدر الكثير من الأموات سيئي الحظ الذين لا يسمح لهم بأن يُدفنوا في أوطانهم، فتبيَّنَتْ لي بوضوح سخرية هذه الحياة التي تتفاوت فيها أماني البشر ، لدرجة جعلتني أشعر بأن الفرق بين الحياة وبين الموت على هذه الأرض يحدده قدر الأوطان التي تختار الصدفة البحتة أن نولد فيها.